سيييييييييييييييك كان صوت الباب و هو يفتح و يدخل والدي بعد ان أتى من يوم عمل مرهق " المولد قرب و السنة دي حيعملوهوا في البلد تمشوا ؟؟؟ "" انت ماشي ؟؟ " "أي حيكون اجازة ""تمام"و هكذا كانت بداية الرحلة ...سخانة في الجو و تجمع عدد كبير من الاهل في مصطبة في كوبر و صوت ثرثرة كثيرة و قصص عن البلد و حكايات و ذكريات لاحت في الأفق و مع هذا المشهد و بعد نصف ساعة من الانتظار في ظل أحد العمارات ، أتت الحافلة التي ستقلنا الى عطبرة ..
.
.
بدأت الرحلة و جلست بالقرب من احدى الشبابيك و بجواري ابن عمي و بدأنا نتجاذب أطراف الحديث و تارة نتابع حركة الشاحنات القادمة تجاهنا و التي يصاحبها القليل من التوتر و الخوف أحيانا ، فالطريق ضيق و مزدحم و عملية التخطي أشبه بمجازفات بليستيشينية ك "درايفر 2 " و " نيد فور اسبيد" ، و تتواصل الرحلة الى ان دخلنا محطة شندي ، و من الشباك أزحت الستارة ، فاذا أطفال أعمارهم لا تتجاوز ال10 سنوات يحومون حول الحافلات و الباصات يحملون الفواكه و البسكويت و غيرها . و بعد دقائق واصلنا الرحلة و انطلق سائق الحافلة من جديد..
.
.
حل المغيب جزئيا و نحن على مشارف عطبرة و بدأت الحافلة في الدخول الى عطبرة و في أحيائها و كان من في الحافلة يتحدثون عن انقطاع التيار و تذمر سكان عطبرة من هذا الأمر و البعض الآخر يقول أن الأمر تحسن من ذي قبل و تثور مجادلات سياسية و سرعان ما تنتهي ما ان توقفنا أمام منزل أحد أعمامنا و نزل الجميع و معهم حقائبهم و تقرر المبيت على أن يغادر الجميع صباحا الى البلد . ...الساعة العاشرة مساء ، تم احضار العشاء و أكل الجميع و تفرقوا بعد ذلك و أتى أقارب لنا و أخذوا بعض من الأهل ليبيتوا عندهم بعد شد و جذب و حليفة و طلاقات و زعل و تراضي و لكن في النهاية و بعد سكون المشهد ، ها أنا أستلقي في فراشي متأملا في النجوم و السماء الصافية الا من قليل من بعض السحب المتفرقة هنا و هناك و هدوء تام و بعد حين لم أشعر بنفسي الا و أبي يوقظني ، قم انه الفجر ، و أقوم و كأني لم أنم و اذا الجميع قد صحى من النوم و بعضهما يتوضأ ليصلي و بعضهم قد بدأ بصلاة السنة و بعد صراع مع النعاس قمت و توضيت و صليت الفجر في جماعة و أمنا عمي و بعد حين ، عدت الى الفراش لكي أواصل نومي ، فاذا يخبرني بأننا سنغادر بعد شرب الشاي " قوم حضر حاجاتك سريع " و فعلا جهزت الشنطة و غيرت ملابس النوم و ناولت أخي غياراته و جهزنا و شربنا الشاي،في الحقيقة لم أستسغ الشاي فلي مشكلة مع ما يعرف ب"القنانة" و اللبن " المقنن" و كمان كان لبن " غنم" و بعد ذلك جهزنا و انطلقنا الى موقف المواصلات و أنا أرسم في ذهني تلك الصورة السيئة عن شكل ما سنركب من باص هل هو ذلك الباص الأبيض ذو الخطين الأحمرين الذي أكرهه فلي معه ذكرى سيئة و حادث أصيبت فيه أمي و كنت وقتها طفلا و لكن تعلق كل تلك التفاصيل في ذهني و أتذكر الحادث كلما نظرت الى ذلك الباص ، و لكن فجأة ، "يا ود مبارك أركب أرح"، و أنا في سري أهمهم " أرح وين ، دا شنو الحنركبوا دا ؟؟؟ " و اذا هو بص في مقدمته لوري و مقفل بالحديد و الصاج فقط ولا توجد به شبابيك زجاجية كالباصات و السيارات ، و بعد ذلك ركبنا حوالي الساعة الثامنة صباحا و انطلقنا و لمن نتناول سوى بعض البسكويتات مع شاي لبن الغنم .
.
.
.
و بعد حين خرجنا من عطبرة و وصلنا الى منطقة تسمى العبيدية و فجأة اذا الطريق المسفلت ينتهي و انعقدت حواجبي ، و تسأئلت ، ياربي الشارع دا قطعوه للصيانة ولا شنو ؟؟ ، و لكن قاطعني أحد الأهل سريعا ، "لالا تاني الباقي رمال بس" ، و فجأة اذا المشهد التلفزيوني لأولئك الذين يركبون اللوري و يتوهون في الصحراء و يعطشون و يموتون و كل هذه الأمور قفذت الى رأسي و أصبحت تتكرر كمن شغل اعادة التشغيل في مشغل الموسيقى في حلقة مغلقة ، و لكن بعد حين صفى ذهني ، لأنه لا توجد رمال بل كانت الأرض صلبة و ثابتة و يوجد جمال هناك على مسافة بعيدة و مساكن بدو و عرب رحل متناثرة هنا و هناك و أخذ الجميع يتحدث عن جمال البلد و البنية و عشة الصالحة و البحر و الخلاوي ، فبلدنا هي تمثل العاصمة الدينية للرباطاب و فيها مشايخهم و خلاويهم و تعرف عندهم بالخلاوي و اسمها "ندي" بفتح النون و كسر الدال و الحرف الأخير ياء ، البنية هي ضريح الشيخ و هي بناء مربع فوق قبره تقع عند حافة المقابر ، و فجأة و في ظل هذه الحكاوي و الأسئلة و الأجوبة نسمع صوت ضجة و يتوقف البص ، و بدأت بالتساؤل : ماذا يحدث ؟؟ ، فاذا بالاجبات تتطاير من حولي "دا عادي البص وحل " ، " اسي المساعد بينزل و يخت الصاجات في الرمل و البص سيكمل المسيرة "و فعلا كنا قد تحولنا الى أراضي رملية حد البصر ، و عاد شريط المسلسل التلفزيوني يدور في رأسي من جديد ، فكانوا يقومون بنفس العملية هذه ، و بعد حين تحرك البص مجددا و عاد الجميع الى ما كانوا فيه من حديث ، و ما هي الا لحظات اذا بصوت ضجة و شي قد هرس ، نزل الجميع من البص ، و الكل بدأ في التنظير ، فالكل يتحول الى خبير في مثل هذه المواقف و كلهم أصبحوا ميكانيكين ، و بدأ الجدل ، بعضهم يقول " كسر عمود جنب" و البعض الآخر يقول " لا لا ياخ دي الكرونة شكلوا هرس الكرونة " لقد كنت وقتها في الاجازة قبل المرحلة الثانوية ان لم تخني الذاكرة ، وبالتحديد بعد مؤتمر شهادة الأساس بأسابيع قليلة ، و كان أبي قد اشترى لي كاميرا جديدة وقتها فأخرجتها و أخذت أصور بعض المشاهد للمنطقة ، و انتشر الناس في المكان و كل ذهب لقضاء حاجته و غيرهم مازال يتجادل في أمر البص ، و في النهاية اتضح أن البص قد هرس الكرونة و ملخص الأمر أنه لن يكون قادرا على اكمال الرحلة ، و بدأ السؤال يزحف الى رأسي ، كيف سنصل و أتبعته كمية من الأسئلة ما الذي سيحدث لنا ؟؟؟ و هل هذه هي النهاية ؟؟ و تأثير المسلسل بدأ يظهر جليا .
.
.
.
.
.
و فجأة تحدث أحد الأهل ، أن اللوري الذي سيحضر البابور و الخضار تحرك في اثرنا و سيأتي بعد دقائق و هم الجميع بالانتظار و لا أخفيكم فقد اضفى كلامه هذا الارتياح في نفوسنا جميعا و خصوصا من كانوا يخوضون هذه التجربة للمرة الأولى ، و فعلا ظهر اللوري و توقف بجوارنا و كان الحل هو أن تركب النساء و الاطفال و الرجال كبار السن في اللوري و ينتظر الشباب بص الساعة 10 ، أي الذي تحرك بعدنا بساعتين ، فقرر أبي البقاء فرفضنا ذلك و قلنا لن نغادر من دونك ، فأقنعوه بأن يركب معنا ، و ركبنا اللوري ، و نزل محمد أخي تحت البابور و أبي ركب رجل في الداخل و الأخرى خارج اللوري و أنا واقف على قدمي و واصلنا الرحلة ، و بين توقف للوحل و مواصلة بعد العملية المتكررة مررنا بالقرب من قهوة ، في الحقيقة هي عبارة عن عشة بكسر العين من الحصير و القش ، و لكن قرر الجميع أن عليهم المواصلة ، و ما أن مرت 10 دقائق منذ أن تخطينا القهوة الا و توقف اللوري هذه المرة و نهائيا ، فقد اتضح أنه كسر عمود الجنب و المساعد نسي أن يحمل معه عمود الجنب الاحتياطي ، فقرر الجميع الذهاب الى القهوة فهي على مسافة ليست بالبعيدة و بالفعل كنا نراها بأعيننا ، و لكنها كانت كالسراب كلما مشينا كنا نراها على مرمى حجر و لكن هيهات و بعد مسير و مشقة وصلنا اليها .
.
.
.
.
و في القهوة يوجد زيرين مياه و كافتيرة شاي و بعض البسكويت فقط ، و في منتصف القهوة كان يعلق صاحبها صورة للرئيس عمر البشير ، فقام مجموعة من الرجال بلفت أحد الشيوخ من أعمامنا اليها فكانت ردة فعله قوية جدا : " ************* انت ورانا ورانا كرهتنا البلد دي زاتها حتى في الخلا قاعد " و ضحك الجميع و تعالت الضحكات و بدأ الجميع في الحديث عن السياسة و لم نكن وقتها مهتمين بهذا الأمر فأخرجنا كرتنا من الحقيبة و بدأنا في لعب الكرة في الرمال و كان أجمل شئ هو الباكوررد او الضرب المقصية كما تسمى في مسلسل كابتن ماجد فقد كان يتعذر تنفيذها في أرض صلبة و لكن في الرمال الأمر أشبه بمرتبة اسفنجية لا نهائية ، فعكفنا نكررها فنصيب مرة و نخطئ مرة ، حتى اشتد الحر فرجعنا القهوة ، و بعد حين أتى لوري متجه الى أبو حمد ، و ترجاه الجميع أن يأخذنا الى ندي أو على الاقل أن يأخذ المساعد و معه أحد أقاربنا الى الشريق ليحضر عمود الجنب و يعود و لكن لم تفلح المحاولة ، فرباطاب أبو حمد معروفين بسوءهم ، فهم أحد الرجال الى ضربه و لكن حجزه الناس ، و غادر اللوري غير مأسوف عليه ، و بعد دقائق و على بعد 100 متر ظهر بص 10 و هو يتحرك بسرعة كبيرة و كان مجهزا و أفضل من لورينا بمائة مرة و من فوقه بعض شبابنا ، فندهنا عليهم و أخبروهم بأن يحضروا بعض العربات من البلد لنقل كبار السن و احضار الاسبير و سمعونا و بالفعل ، ما هي الا ساعة و .
.
.
.
.
سمعنا صوت عربتان لاندكروزر ، احداهما للمعتمد و الأخرى لعوض حاج على ، و هو من أعيان الرباطاب ، و دكتور و مؤلف كتاب الحاسوب للمرحلة الثانوية ، فأخذت العربتان كبار السن و وعدت باحضار الاسبيرات و العودة بلوري آخر ليقل البقية "نحن" و بعد ساعات من الانتظار حضر اللوري الجديد و ركبنا و كان الوقت أصبح عصرا و ركبنا اللوري و بدأنا في محاولة الاستمتاع بالرحلة ، فأمسكنا بجوانب اللوري و ملنا بأجسامنا للخلف كأننا في تزلج على المياه بمزلاج شراعي و كانت تجربة رائعة بالفعل و مرحنا جدا و ساد جو من الارتياح بعد رحلة شاقة ، و وصلنا الى البلد .
.
.
.
دخلنا الى أحد البيوت و قدمت لنا وجبة الغداء و كنا جائعين جدا فلم نأكل سوى تلك البسكويتات مع شاي الصباح ، و كانت ثريدا ، و أنا لا أحب الفتة نهائيا و لكني أذكر في ذلك اليوم كانت أطعم ما يمكن و استمتعت بها جدا ، و بالجد الجوع كافر ، فما لا آكله ، كان لي ألذ مافي الأرض من الطعام ، و بعد ذلك ذهبت للزير لكي أشرب بعد أن غسلت يدي ، فاذا بالمياه بنية تماما ، و لكن لا يوجد حل ، اما أن تشرب ، او تظل على عطشك ، و بالفعل قررت أن لا أنظر و أشرب فقط ،.
.
.
.
غسلت وجهي بعد ذلك في محاولة مني لاخراج الرمال من عيني و لكن هيهات ، فبعد محاولات يائسة قنعت بالأمر ، و خرجت لأتفرج على طقوس المولد ، فنادى علي والدي ، " أرح البحر " و بالفعل ذهبنا للبحر و نزلنا و عمنا قليلا أو في الحقيقة كان الأمر أشبه بالاستحمام و استمتعنا بوقتنا قليلا و رجعنا الى المنزل الذي نزلنا فيه ان جغرافيا بلدنا ليست صعبة ، فهي محصورة بين السكة حديد و النيل في مسافة لا تزيد على 800 متر ، حيث يلي قضيبي السكة الحديد القليل من الرمال ثم يأتي المسجد ثم البيوت ثم النخيل و أحواض الزراعة ثم النيل ، هذا عرضيا ، و لكن طوليا تمتد لمسافة طويلة . بعيدا عن السكة الحديد و في الجهة المعاكسة للمسجد يوجد قوز عالي من الرمال ، يطلق عليه عائشة الصالحة ، أو عشة الصالحة ان أردتم و كنا نصعده و ننزل متدحرجين و استمتعنا جدا بهذا الأمر ، في مقدمت هذا التل و على مسافة منه توجد البينة و المقابر ، فزرنا البنية ، و عدنا منها الى المولد ، و الاحتفال كان قد بدأ و النوبة و الصيوان و المعتمد و التبرعات لاعادة تأهيل الجامعة انصرفنا بعد ذلك مع أبي الذي كان يرينا في بيتهم و بيوت أعمامي الذي سكنوا في البلد لفترة ..
.
.
و غابت الشمس عن ندي و حل الظلام ، فبقينا تحت ضوء القمر ، و أحضروا الفطير باللبن و لا ترى جيدا ماذا يوجد و لكن كنا نأكل ، فتبين أنه فطير باللبن و كان جميلا جدا و بعد ذلك ذهبنا الى بيت أحد اعمامنا الذي قرر استضافتنا و حلف علينا بالمبيت عنده و بالفعل ذهبنا ، و كانت لديهم كهرباء و دكان و أنوار و شكل من الحياة المدنية ، و كان قادنا بسيارته مسافة ليست بالقصيرة ولا البعيدة و أحضر لنا أسرة و أغطية و نمنا ،حتى أتى الصباح ..
.
.
فصحونا باكرا و شربنا الشاي و رجعنا للمنطقة الاولى و وجدنا اللوري في انتظارنا فركبنا و عدنا الى عطبرة ، و هذه المرة كانت الرحلة سلسة و وصلنا ظهرا و تناولنا الفطور في الموقف وكانت ملاح فاصوليا على ما أذكر و ركبنا بعد ذلك و عدنا الى الخرطوم ، لتكون أول و آخر زيارة لي الى بلدي في رحلة ظلت محفورة في ذاكرتي كل هذه المدة .
ديسمبر 2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق