دارفور تحترق ، الأوضاع وصلت مراحل متأزمة دفعتني للكتابة ، و هو أقل ما يمكن أن أقدمه ، على الأقل لأرضي ضميري ، الساكت عن الظلم ، كالظالم تماما و ان لم يوافقه .
سأبدأ هذا المقال بالحديث عن أول خيط للوعي عن أزمة دارفور و هو فيلم وثائقي لرحلة ضابط سابق في البحرية الأمريكية ، و عمله مع الاتحاد الافريقي كمراقب لوقف اطلاق النار ، الفيلم اسمه The Devil Came On Horseback و يمكن أن تجدوه على يوتيوب على الرابط :
The Devil Came On Horseback
في 2004 و مع وقف اطلاق النار بين الشمال و الجنوب ، ضابط سابق في البحرية Brian Steidle تم ارساله في مهمة لمراقبة وقف اطلاق النار ، في أقل من 6 شهور ، الضابط يجد نفسه شاهد على بداية صراع في دارفور .الفيلم يصور فيه ما حصل في دارفور في تلك الفترة عن طريق الجنجويد و من هنا جاء اسم الفيلم The Devil Came On Horseback.
لكي يتمكن الناس من تصور الوضع الحاصل حاليا في دارفور ، لابد أن تشاهد هذا الفيلم ، فظائع لا يمكن تخيلها ولا تقدر أن تتفرج عليها أصلا ، توجد صور لجثث محروقة لكن مربوطة بأغلال حديدية ، أناس تم حرقهم أحياء في صفوف ، الفيلم يشرح أسلوب الحكومة في الوضع الحاصل هنالك، في البداية تأتي طائرة مروحية (هليكوبتر) تضرب القرى ، بعد ذلك بيصدروا أوامر للجنجويد ليحرقوا ما تبقى، الفيلم فيه تسجيلات صوتية لضابط سوداني يقول فيه" الحتة دي فتشناها و مافيها حاجة تاني فاضية أي حتة تمر عليها طوالي أحرقها عشان ما يجو تاني..أصلو ما تخلو حاجة وراكم ، عشان ما تتفاجؤا بي حاجة " هذه كانت أوامر الضابط الموجود في الطائرة للجنجويد. يحكي الضابط الأمريكي Brian عن ان الجنجويد في غاية البساطة ، تسألهم من أين تحصلوا على الأسلحة ؟؟ الحكومة أعطتنا اياها ، من دربكم ؟؟ دربتنا الحكومة و هي التي تدفع لنا ، تحدث عن أنهم ليسوا بخائفين من أن يقولوا لك الحقيقة كما ما هي . في مقابلة مع واحد من الجنجويد تم سؤاله عن شكل الهجوم كيف يكون ؟ أجاب انهم ينتشروا كلهم بعد هجوم الطائرة يقوم القائد باطلاق صفارة و يبدأ الهجوم بعد الصفارة و يرددوا شعارات و بعدها يهاجموا و أي شخص يجدوه يقتلوه ،عندما سأله عن الشعارات قال: " أقتلوا العبيد ، أقتلوا العبيد" . الفيلم الوثائقي كان في 4 مناطق ، بدأ لمن كان Brian مراقب في جبال النوبة و بعد ذلك انتقل الى دارفور و رجع أمريكا ثم جاء الى معسكرات النازحين في تشاد .أكثر شئ مؤلم بعد الصور ، هي دموع أهلنا و هم يحكون عن المآسي التي عاشوها ، آلامهم في حكاهم ، أوضاعهم الصعبة في معسكرات النزوح . لكي يتمكن الناس من تخيل الوضع ، أناس يعيشون في قرى مبنية من القش و لا توجد أي وسائل معيشة و مع ذلك يبكون لكي يرجعوا الى قراهم " وطنهم " .
الناس يمكن أن ترى الصراع القبلي في دارفور معقد و خرج عن سيطرة الحكومة ، و فعلا هذه حقيقة ، لكن هذا الصراع كان طبيعي و يحل ودياً في السابق . تدخل الحكومة منذ البداية في الصراع عن طريق تسليح بعض القبائل هو الذي أدى للتطورات الأخيرة.
الأمر الذي يقود الى تحليل تاريخي من سنار و ما قبل سنار في ادارة المناطق الجنوبية ، ما يعرف ب"عدم الأمن المؤسسي " . عدم الأمن المؤسسي بيعني شيئين، انك تجعل أي فرد غير آمن على نفسه و حريته ، و على مستوى الجماعة انك تخلق صراع بين القبائل و يكون الصراع مستمر ، شكل الصراع نفسه متحكم فيه من قبل النبيل أو الحاكم أو المسؤول من الدولة ،و هو بيعين طرف على الطرف التاني ،و الخاسر بيخسر أمواله لصالح المنتصر أمواله بمعنى ثروته ، أرضه ، ممتلكاته كلها و في ذلك الوقت طبعا حريته . الدولة بتقدم تسهيلات للطرف المنتصر في قبول الضرائب من ثروة القبيلة الخاسرة ، كممتلكات و كرقيق في ذلك الزمن ، و الموضوع بيستمر في هذه الدائرة . مفهوم "عدم الأمن المؤسسي " متى يستخدم ؟ يستخدم عندما تكون الدولة غير قادرة على السيطرة الكاملة عسكريا و سياسيا على منطقة ما ، فتخلق صراع بين الأطراف الموجودة ، بحيث هي تكون الطرف الأقوى دائما و هم الطرف الأضعف كقبائل و هكذا تستطيع أن تلهيهم في صراعاتهم الداخلية . انشغالهم في صراعاتهم عندما تنظر للصورة الكبيرة ، يجعلك ترى بوضوح انهم محدودين بي حدود قوة الدولة في التحكم في هذا الصراع و بالتالي السيطرة عليهم . الغلطة الحصلت و أدت لي انه الصراع يخرج عن السيطرة ، انه المفهوم بيعتمد على ضعف القبائل ما لم تقويها الدولة ، فلما تقوي الدولة طرف على طرف ، مفروض تقوي طرف آخر علي الطرف المنتصر ، لكن في حرص انهم لا يخرجوا من الدائرة الكبيرة اللي هي قوة الدولة نفسها ، و في نفس الوقت ما يكون في اتحادات بين هذه الأطراف أو على الأقل بين طرفين قوتهم الدولة . و هذا ما حدث ، اتحاد بعض الجماعات مع بعض خرق دائرة القوة و تحول الصراع الى الجماعات ضد الدولة ، فاضطرت الدولة للتتدخل و تدعم طرف وحيد ضد البقية ( الجنجويد ). مع الانقسامات المستمرة و عمليات السلام الوهمية ، فقدت الدولة حلفائها و أصبحت الجماعات اما متحدة ضد الدولة ، أو في صراع داخلي لمصلحتها الخاصة . وهذا تقريبا ممكن يكون الحاصل حاليا في دارفور ، انا ما متابع الوضع جيدا ، لكن دا تحليل من خلال فكرة مفهوم عدم الأمن المؤسسي .
حل المشكلة بيكون غالبا في حل الجذور ، الصراع في أصله قد يكون بسيط ، على مرعى أو أرض ، أما صراع الاتحادات ناتج من التهميش و عدم التنمية ، قضايا حقوق في الأصل ، يمكن أن تحل بالقوانين و التفاوض ، و لكن مع شرط تحييد الدولة الحالية ، لأنها أصبحت جزء من الصراع .يقول جان جاك روسو : تغير الارادة العامة طبيعتها بدورها عندما يكون موضوعها خاصا ولا تستطيع - كارادة عامة - أن تقضي في أمر رجل ولا واقعة . الدولة حسب روسو كدولة يجب أن تكون محايدة تجاه الأطراف الخاصة ، و أي صراع داخلي تدخل فيه تفقد صفتها كدولة من حيث كونها ستقف في صف طرف على آخر ، مما يعني حسب روسو أيضا ، أنها غلّبت ارادة عامة ناقص جزء من الشعب على الارادة العامة للجزء من الشعب ناقص الشعب ككل .و بالتالي فقدت صفتها كدولة تمثل الارادة العامة حسب العهد الأولي من العقد الاجتماعي ، بحيث يجب أن تقف على نفس المسافة من جميع الأفراد . بالرجوع للموضوع الأساسي ، تحييد الدولة يكون ضروريا جدا في حالة دارفور ، و محاكمة الأطراف المتورطة و حل مشاكل القبائل داخليا .حل المشكلة الأساسية المتمثلة في التنمية الحقيقية على الأرض ، في شكل الخدمات و المرافق و الصحة و الخ ، و ليس عن طريق تقسيم المناصب . الحلول الحقيقية على الأرض بتحرج أي أصحاب أطماع و انتهازيين من العيش على القضية النبيلة لسكان دارفور .
في جزء منكم قد يقول اني أهملت ذكر مسألة العنصرية في المشاكل المفروض تحل ، موضوع العنصرية ما بيقتصر على أهل دارفور فقط ، و هي مشكلة ثقافية بتحتاج زمن و صراع ثقافي و تعليمي ، ليست مسألة بتحارب بقوانين فقط و بتحتاج أجيال عشان تنتهي . أجمل ما قيل في مشكلة العنصرية ، قالاه رجلان من أعظم الرجال ،الأستاذ عبد الخالق محجوب في مؤتمر المائدة المستديرة و عقب عليه محمد ابراهيم نقد في كتابه علاقات الرق في المجتمع السوداني و هنا سأقتبس ما قاله الأستاذ عبد الخالق محجوب : " و كنا نأمل لو شملت تلك التغييرات مفاهيم بعض إخواننا ،اللذين يسموننا احفاد الزبير . و نحن نقول لهم بصراحة و وضوح : نعم، نحن أحفاد الزبير باشا، فنحن لا نتهرب من تاريخنا . و لكننا ننظر إليه نظرة موضوعية ناقدة. و في غير مرارة نستمد من الدروس و نستقي منه العبر. فتجارة الرقيق كانت مدفوعة من المستعمر الأوروبي و لمصلحته ، و هي عار عليه في تلك العهود و عار على كل من نفذه. هذه حقائق بسيطة للذين يعرفون التاريخ. ولكننا نذكّر من لا يرون سوى الجانب المظلم من تاريخنا العابر،أن إخواننا الإفريقيين نقلوا بالآلاف بل و بالملايين لزراعة القطن في الولايات الجنوبية لأمريكا ... فأحفاد الزبير يتغيرون و يتطورون مع الزمن و هم يبنون السودان الحديث ...." مارس 1965 . و عقب عليه الأستاذ محمد ابراهيم نقد : "تجاوز الزمن ربع قرن على هذه الفقرة المشبعة برياح أكتوبر . و تفاقمت أزمة المجتمع السوداني عما عرف و حصر آنذاك في مشكلة الجنوب لتصبح أزمة و مشكلة السودان بكلياته : هويته ، وحدته ، نظام حكمه ، ثروته ، ثقافته ، مكانته في العالم المعاصر ...و تراكمت على مخلفات الماضي ، بكل ثقلها ، رواسب و افرازات الأمس و اليوم في الحاضر اللئيم . و شمخ التحدي و استأسد . و بات على أبناء السودان أن يواجهوا هذا التحدي بذات الشموخ و الجسارة - أبناء السودان من حيث هم كذلك : أحفاد الزبير و أحفاد من استرقهم الزبير ، مواطنون سودانيون أباة تجمعهم و توحدهم مواطنة لا يحد منها و لا ينتقص فيها فارق عرق ، أو جنس أو دين ، لا يستشعرون مذلة من انكسار الرقيق ولا مكرمة من زهو المالك ، يعقدون خناصرهم لتحرير الإنسان السوداني من عقده و رواسبه ، يردون اغترابه الجسدي و استلابه الروحي ، يصارعون حتى يصرعوا مخلفات الماضي في العنجهية و مركب النقص ، في المباهاة بالحسب و في الحقد و الانتقام المؤجل ، في النسيان المخدر المريح و في الذاكرة القلقة الواخزة ، في الاستعلاء و في الاحتقار المكتوم ، في الوقار المنافق و في الاستهتار الصلف ، في الثقة الزائفة و في الشك المرتاب .
تلك مهمة جيل ، و جيل معطاء ، يحمل الرسالة عن وعي بثقلها ، لا ظلوما ولا جهولا ." أكتوبر 1993
التعامل مع الحكومة الحالية كطرف عنده أجندة و بيهمش على أساس عنصري فيه شئ من السذاجة في رأيي من المستفيدين و من المتضررين على حد سواء ، الحكومة الحالية عبارة عن عصابة بتستغل اي عامل يساعدها للبقاء و السيطرة و استغلال موارد الدولة لحسابها ، سواء كانت عوامل دينية أو عرقية أو غيرها . بيخالفوا الدين اذا ما وافقهم ، بيخالفوا العرق اذا ما وافقهم ، مثلا في الجنوب قالوا جهاد ، في دارفور وجدوهم مسلمين ، استغلوا الصراع القبلي . الحكومة مهمشة الكل لكي تعيش عليهم .من الطرائف بيحكي انه رياك مشار زار الولاية الشمالية فعندما رأى الوضع قال لهم : "انتو ما دخلتو الغابة ليه ؟؟" في اشارة للتمرد . التهميش قديم و أصوله بترجع للاستعمار ، السكة حديد اتعملت لكي يدخلوا بها عسكريا و ثانيا يصدروا بها القطن و المنتجات الزراعية ، مشروع الجزيرة ( القطن ) كان في الوسط ، التنمية كانت مربوطة بمصالح المستعمر ، المصانع في عطبرة و بورتسودان فيها الميناء . الحكومات المتعاقبة فشلت في حل المشكلة ، و أخيرا عندما قدم المؤتمر الوطني (اسلاميين + عسكر ) فاقم المشاكل ، بتدمير التنمية الموروثة من المستعمر متمثلة في مشروع الجزيرة و السكة حديد و عطبرة . الحكومة ليست مهتمة بعرقك أو دينك ، هي مهتمة بمصالح أفرادها فقط و أي تعامل معها غير مبني على هذا الأساس سيكون من الخطأ بما كان . المشكلة في البدء كانت في الجنوب ، انفصل ، نقل الصراع شمالا الى جبال النوبة و غرب السودان ، أي تحركات في العاصمة تقمع بالسلاح ان لزم الأمر . لو المستفيدين بصورة مباشرة كعناصر في المؤتمر الوطني أو بصورة غير مباشرة كشماليين موجودين في الخرطوم ، مفتكرين انه النار ما حتصلهم فواهمين . اذا كنت في المؤتمر الوطني ممكن يقصوك في أي لحظة و اذا كنت في الخرطوم عندما تعارض مصالحهم حيقصوك أيضا ، في النهاية الموضوع بيصل لي فكرة تروتسكي :
In a country where the sole employer is the State, opposition means death by slow starvation. The old principle: who does not work shall not eat, has been replaced by a new one: who does not obey shall not eat.
"في البلد التي تكون الدولة هي المخدم الوحيد ، المعارضة تعني الموت بالجوع التدريجي ، و يتحول المبدأ القديم : من لا يعمل لا يجب أن يأكل الى من لا يطيع لا يجب أن يأكل" .
"You may not be interested in war, but war is interested in you." و هي مقولة أخرى لتروتسكي : " ربما لا تكون مهتما بالحرب و لكن الحرب مهتمة فيك "
التعامل مع حكومة المؤتمر الوطني يجب أن يبنى على هذين الاقتباسين لتروتسكي .
هذا المقال موجه بصورة عامة لكل سوداني ، انساني ، من دارافور أو من الشمال أو الشرق أو الجنوب ، المشكلة مشكلة واحدة و الحل يبدأ مننا في الادراك و الوعي و من ثم الاعتراف و محاسبة المخطئين و العفو عن مرارات الماضي ، حتى نطوي هذه الصفحة من الصراع الطويل ، و ننقل الصراع الى بناء دولة تجمعنا كلنا ، بمختلف سحناتنا ، دولة توفر لنا التعليم و الصحة و تقف على بعد واحد مننا كلنا ، كمواطنين فقط ، لتكون دولة تمثلنا كسودانيين ، أرجوكم شاهدوا الفيلم و انشروه قدر الامكان . نشر الاخبار عن دارفور قد يضغط على الحكومة و قد يساعد المجتمع الدولي في التدخل لتقديم العون الانساني للمتضررين الآن من أهلنا في دارفور .
أنصح بمتابعة الموقع http://savedarfur.org
و أيضا هاشتاق #DarfurIsBurning على تويتر و وضع أي أخبار أو صور تخص الموضوع .
مارس 2014
فعلا في جهل كبير حول ما يدور في دارفور وزي ما قلت اول عتبة في سلم الحل هي الوعي بالحاصل والاطراف.. مقال رائع اشكرك علي المجهود دا وفعل عرفت كتير لاول مرة .. وان شاء الله في يوم قريب تتحل كل المشاكل ويعشيوا اهلنا في دارفور في سلام
ردحذف