وجهة الإنسان للمأوى قديمة قدم الإنسانية نفسها وتقع على قاعدة هرم ماسلو
للإحتياجات. داخل كل منّا "معماري" بالفطرة، فالإنسان على مرّ التاريخ عمل
على بناء مسكن يمنحه الخصوصية ويقيه شر تقلبات المناخ وغدر زوار الليل،
واكتسب بالممارسة والخبرة التي تناقلت عبر الأجيال مهارات توظيف المواد
والوسائل المتاحة لخلق سكن يفي باحتياجاته. ثم لاحقاً تطوّر ذلك إلى علمٍ
يُدرَّس في الجامعات ويُمارس في سوق العمل وبالرغم من ذلك ما زال اكثر من
60% من المباني (السكنية تحديداً) يتم بناؤها من دون "معماري".
كان
وما يزال وسيظل للمناخ والبيئة المحلية الأثر الأعظم في أشكال المباني
ومواد وتقنيات البناء المستخدمة. فنجد الأسقف المائلة في المناطق ذات
معدلات الأمطار العالية والمباني الحجرية في المناطق الجبلية والخيام عند
البدو الرحّل وهكذا. حالياً ومع التوجه العالمي لرفع الوعي بالتغيّرات
المناخية وتأثيراتها نجد أن المبنى ليس فقط متأثراً بالمناخ والبيئة بل
ويؤثر بشكل كبير عليهما، فقطاع المباني في العالم مسؤول عن استهلاك ما يعادل 40% من الطاقة و المواد، و ينتج حوالي ثلث انبعاثات Greenhouse gases.
كذلك تؤثر المباني على حياتنا العامة و الاجتماعية بشكل كبير فكما قال رئيس الوزراء البريطاني وينستون تشيرشيل :
"We shape our buildings; thereafter they shape us".
فالمباني
إذًا لها دور كبير في شكل حياتنا الاجتماعي و الاقتصادي و مستقبل الوجود
الانساني إذا ما تم ربطها بقضية المناخ و الانبعاثات التي تفرزها للغلاف
الجوي . الجهود العالمية تتجه اليوم نحو مسألة تقليص الانبعاثات من الغازات الضارة بالبيئة عن طريق قطاع المباني.
هذا
مجرد تقديم للموضوع الذي أود الحديث عنه و هو مسألة شكل المباني في
السودان و التغييرات التي طرأت عليها و تأثيرات هذه التحولات على شكل
الحياة الاجتماعية و تقييدها للحرية و التضييق على مساحة القدرة على
التكيف.
مباني
الخرطوم القديمة كالتي جاء بتصاميمها الأتراك و الانجليز ، تعكس بعض
التقنيات الحديثة في مسألة الاستفادة من أشعة الشمس، ففكرة البرندة مثلاً
تماثل ما يعرف بمفهوم Solar Isolated Gain في الSun space حيث
يتم تجميع الحرارة من الشمس في مساحة خارجية، بعدها يمكن الاستفادة منها
في ادخالها الى باقي المنزل من عدمه في حالة الجو البارد مثلاً تحتاج هذه
الكمية من الحرارة و في الصيف يتم عمل حاجز أولاً بدلا من أن تدخل أشعة
الشمس و الحرارة مباشرة الى المنزل. هذه الحلول وغيرها مثل الإهتمام بتوجيه
المبنى وتصميم الفتحات في الواجهات الشمالية والجنوبية وتقليل وعزل
المساحات المعرضة لأشعة الشمس المباشرة كانت موجودة بصورة مبسطة في المباني
القديمة.

أما
عن مواد البناء، فمثلاً بيوت الطين التقليدية باستخدامها مواد صديقة
للبيئة و الخشب في السقوفات، تعمل على خلق بيئة تلائم الظروف المناخية
للخرطوم مثلاً كمدينة ذات مناخ شبه صحراوي ترتفع فيه درجات الحرارة. وجود
مثل هذه النماذج يحتاج لتوفر القليل فقط من الكهرباء المستخدمة في التكييف،
اذ يشكل التبريد حوالي 60% من الاستهلاك المنزلي في معظم البلدان و المناطق الحارة. مثل هذه المفاهيم تستخدم حاليا في البلدان المتقدمة لبناء ما يعرف بال( ZEB (Zero-Energy Building و
هو مفهوم قائم على تقليص استهلاك الطاقة في المنزل الى الحد الأدني الذي
يمكّن من تلبية متطلباته باستخدام طاقة متجددة مولدة محليا في مساحة المنزل
نفسه أو مأخوذة من مصدر طاقة متجددة قريب بحيث يكون صافي استهلاك الطاقة
يعادل صفر. و يستخدم تقنيات مشابهة تماما لما كان عليه الحال في المنازل القديمة المبنية من الطين في قرى و مدن السودان.
العاصمة
الخرطوم تشتكي من ارتفاع مستمر في درجات الحرارة و مع الطريقة الحديثة في
البناء التي أملتها العولمة من وجود مباني من الأسمنت و الحديد أو ما يعرف
بالبيت المسلح - وهو فعلاً مسلح لكن ضد الشخص الذي يستخدمه - فالمباني
الحديثة لها كينونة تماماً كجسد الانسان ومع غياب الطاقة عنها تغيب الخدمات
(انارة ، أجهزة كهربائية ، ماء ساخن الخ) و تصبح تماماً كالكهف. وجودها
بتصاميم جاهزة يزيد من الضغط على توفر الكهرباء الأمر الذي يعاني منه
السودان و مع ذلك تزيد كمية الأسمنت المستخدمة أكثر و أكثر، الأمر الذي
يساهم في ارتفاع درجة حرارة المناطق المحيطة بهذه المباني، اذ تقوم بامتصاص
أشعة الشمس في النهار و اطلاقها في الليل. المشكلة في هذه النماذج أنها
استوردت ناقصة ودون مراعاة لخصوصية البيئة المحلية ومتطلباتها. حتى
المتطلبات التي تُلزم بها المعايير العالمية في مثل هذه المباني لا يتم
تطبيقها و مع عدم توفر الطاقة اللازمة لها يجعل الانسان يتسائل لماذا اذا
هذا الاصرار عليها مع كل التقييدات التي تفرضها و هو ما يقودني الي الجانب
الاجتماعي في الموضوع في الفقرة التالية.
مسألة
استيراد هذه النماذج الجاهزة و محاولة تطبيقها ولكن تطبيق ظاهري، تفطن له
الاستاذ محمود محمد طه في وقت مبكر ولكن في المظاهر الاجتماعية لسودان ما
بعد الاستقلال، فقال: "نحن نعيش على قشور من الاسلام، و قشور من المدنية
الغربية". الأمر الذي يعكس حالة الصراع
بين العالمية والمرجعية، العالمية هنا متمثلة في المدنية الغربية أو
الحضارة الأوربية الرأسمالية و هي حضارة كما وصفها دكتور عطا البطحاني
بأنها تميزت على الحضارات السابقة بقدرتها على فرض نفوذها وأنها لم تقم على
أساس مادي عسكري فقط بل قامت أيضا على أساس فكري و ثقافي و حضاري و خلقت
لنفسها نموذجاً عالمياً و أسست له بحيث لم و لن تجعل أحداً يستمتع بعزلته*.
و المرجعية متمثلة في العادات المجتمعية والدين الاسلامي وتواجده في
المجتمع بعد أن أخذ صبغة هجين بمخالطته لكل الثقافات والعادات وخرج بنموذج
ذي طابع خاص أكثر تسامحاً مع الكثير من ممارساته المجتمعية كما أشار الى
ذلك الطيب صالح في احدى مقابلاته. فبذلك أصبح الإنسان السوداني يعيش صراع
العالمية و المرجعية و هذه الثنائية أنتجت حالة من العيش في منطقة وسط أو
في مناطق لا هي عولمة كاملة و لا هي مرجعية تامة. الأمر الذي انعكس على شكل
المباني. فالمباني
القديمة أو بيوت الطين أو الطوب الأخضر تميزت بتصاميم ملائمة للواقع
الاقتصادي و البيئي والعادات الاجتماعية من خلال فكرة الحوش الكبير، حيث
يوجد عدد من الأسر تقيم في منزل واحد به فناء واسع تمارس فيه حياتها
اليومية في مساحة كبيرة للاحتكاك و التداخل، و فكرة "النفاج"
حيث يمكن التحرك بين بيوت الأسر أو الوصول الى الجيران من دون الحوجة الى
الخروج الى خارج المنزل أو الشارع. هذه السهولة في الحركة والتداخل خلقت
نوع من الوحدة الاجتماعية و روابط قوية جداً. أما في حالة الموظفين القدماء
في الحكومة " الأفندية" و البناء على الطريقة الانجليزية، التي راعت
البيئة بفكرة " البرندات " وخلافه مثلت فئة من المجتمع بطريقة حياة
اجتماعية مختلفة اذا أردت أن تسميها قشور من المدنية الغربية فلك ذلك.
المشكلة
في النماذج الجاهزة للبيوت الحديثة التي صاحبت التحولات الاقتصادية و
السياسية في المجتمع السوداني وأصبحت تشكل رمزاً للترقي الطبقي و المكانة
الاجتماعية فهي نماذج استوردت جاهزة و لم تلائم شكل المناخ في السودان أو
الخرطوم تحديداً، ولا القصور الذي نعانيه في انتاج الطاقة الكهربائية، فهي
تفتقر إلى ميزة التكيّف مع المناخ التي تتيحها لك التصاميم السابق ذكرها،
وتعتمد بصورة زائدة على وجود الكهرباء وتشجع على الاستهلاك المكثف. البعد
الاجتماعي هو ابرز مظاهر حالة الصراع بين العالمية و المرجعية التي نعيشها
فالبيوت القديمة بمبانيها و تصميمها كانت تلائم نوع معين من العادات
الاجتماعية و ممارسات المجتمع في الأفراح و الأتراح وخلافه. فأصبح الشخص
ينتقل من تلك البيئة الى المباني الجديدة، فيفاجأ بأن هذه المباني لا تلائم
مثل هذه الممارسات و تفرض عليه نوعاً جديداً من شكل الحياة الاجتماعية
فيدخل في حالة انفصام بين شكل الحياة القديمة التي تعوّد عليها و بين
الحياة التي شكلتها و فرضتها المباني الحديثة بطابعها العالمي.
هذه
التحديات ليست حصراً على السودان، فالمباني في العالم أجمع تتشكّل في
مواجهة تيارالعولمة الجارف في طريقه كل مظاهر المحلية والتمسّك بالهوية،
بالإضافة الى التقلبات المناخية الناتجة من الاحتباس الحراري التي أخضعت
حتى اكثر المدن تخطيطاً واهتماماً بالمباني لإمتحانات طبيعة مفاجئة مؤخراً.
ولكن ومع التطور التكنولوجي في عالم مواد وتقنيات البناء يجدر بنا العمل
على القفز بقطاع المباني فوق حواجز الزمان والمكان مستصحبين معنا تراكم كل
الخبرات الإنسانية والتجارب السابقة ومستفيدين من اخطاء الماضي للخروج
بنماذج مريحة ملائمة للبيئة ولإنسان هذه الأرض واعين بمسئولياتنا تجاه
الأجيال القادمة والمستقبل الواعد.
مقال مشترك : إيمان صالح / سامح مبارك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*أزمة الحكم في السودان - عطا الحسن البطحاني.
مقال مشترك : إيمان صالح / سامح مبارك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*أزمة الحكم في السودان - عطا الحسن البطحاني.