الأحد، 4 أكتوبر 2015

تنمية متوازنة .. سلم وطيد

السودان بلد يتميز بالتنوع العرقي و الثقافي ، مما يجعل منه خاضعا اما لمفهوم التعددية (Plurality ) و هي فهم اجتماعي لتوحيد المجموعات المختلفة و ظهور منظومة أخلاقية مركزية و تكاملية أو مفهوم المجتمع التعددي (Pluralism ) و هو يعني الاختلاف و الانفصال بصورة غير متداخلة للمجموعات المختلفة بحيث تسيطر أقلية من خلال قوة سياسية مهيمنة  تفرض سياساتها و ثقافتها على المجموعات الأخرى من خلال سيطرتها على جهاز الدولة. يتضح من السابق أن السودان أقرب للمجتمع التعددي منه الى التعددية ، و بالتالي يتخذ الصراع فيه طبيعة فرض فصيل هويته و ثقافته على المجموعات الأخرى مستغلا هذه القوة. 
الغرض الأساسي من كتابة هذا المقال هو محاولة للمساهمة في الوصول الى عملية سلام مستدام في السودان. المنطلق الذي سأبدأ منه هو طبيعة العلاقة بين صراع الهوية و التنمية الاقتصادية  ، فبإعتقادي تنشأ هنا علاقة جدلية بين الاثنين و هي التي تأخذ في خلق أنماط مختلفة للصراع في السودان و لكن يمكن تفاديها و التقليل من حدتها اذا ما تم فهم طبيعة هذه العلاقة بصورة جيدة. في ظل التهميش لمجموعة من المجموعات ، تصبح أوضاعها الاقتصادية و استقرارها أكثر هشاشة و بالتالي تجدها في محاولة للدفاع عن هذه الحالة من الاهمال و الاقصاء ، تتعنصر و تتمسك بثقافتها و عرقها بصورة أكثر حدة و شراسة للبقاء و الحفاظ على النوع و مع محاولات الفئة المهيمنة فرض ثقافتها تنشأ الأزمة بصورة حادة و مع عدم توازن القوى تبدأ هذه المجموعة المهمشة في البحث عن وسائل للمقاومة تصل في قمتها الى السلاح و التمرد على السلطة المهيمنة و يتخذ الصراع شكلا عرقيا و ثقافيا للبقاء أكثر من كونه مجرد تهميش اقتصادي بسيط . المجموعات المختلفة لها ثقافات مختلفة و أنشطة اقتصادية مختلفة ، تتقاطع مع بعضها أحيانا فتكون طبيعة الصراع فيما بينها أكثر حدة في حالات الأزمات و الخطر على البقاء ، فمثلا وجود مجموعات تعمل في الرعي و الزراعة و حركة هذه المجموعات في مواسم الأمطار و التداخل الذي ينشأ بينها يسهم بشكل كبير في تحديد طبيعة علاقات العداء و المودة أو التعاون بينها. ففي حالة جدب الموسم تشتد حدة الصراع نسبة لاتخاذه طابع صراع الهوية ، حيث كما أشرنا سابقا الى العلاقة بين المادة و الهوية ، حيث مع الاحساس بالخطر يشتد التعنصر و التوحد و الاحتماء بالمكون العرقي و الثقافي للمجموعة و تصبح طبيعة الصراع على الموارد بين المجموعات الرعوية و المجموعات الزراعية أكثر شراسة و حدة و في أزمات دارفور مثال جيد ، كذلك علاقات المسيرية بدينكا نقوك في منطقة أبيي مثال آخر ، حيث تختلف طبيعة العلاقات و حدة الصراع مع التغيرات المناخية و أثرها على الموارد .
اذًا كيف يمكن الوصول الى حالة من السلم المستدام ؟. الأمر في رأيي يكمن في إزالة التهميش و الإنتقال من مفهوم المجتمع المتعدد الى التعددية بصورة سلسة و طوعية ، حيث يمكن ذلك بإقامة المشاريع الكبيرة ، كتجربة مشروع الجزيرة مثلاً ، ففيه العديد من المجموعات العرقية ، لها أوضاع مادية مختلفة و بينها صراع و لكنه يبقى صراع أقل حدة ولا يرقى إلى درجة العنف المسلح ، و لا يتم استدعاء المكون العرقي و الثقافي ، بسبب أن الوضع الاقتصادي و الاستقرار الذي وفره المشروع لهذه المجموعات خلق بينها نوع من التعايش و تقبل الآخر الثقافي و العرقي بدرجات مقبولة ، و بصورة تدريجية بدأت تنشأ منظومة أخلاقية تكاملية ، تأخذ الحد الأدني المتوافق عليه و بدرجات متفاوتة حسب الوضع المادي لكل مجموعة و بالتالي تم الانتقال طواعية نحو التعددية و بالتالي زيادة فرص السلام المستدام ، بالتقليل من حدة صراع الهوية و المكون الثقافي عن طريق التنمية الاقتصادية و العلاقات الانتاجية الجديدة التي وفرها المشروع في شكل مشابه لما يحدث في المدن. 
يمكن أيضا في حالة الصراع بين المجموعات الرعوية و الزراعية ، تطوير الأدوات الزراعية لتلك المجموعات و مساعدتهم بالتدريب على وسائل تكنلوجيا متطورة تزيد من الانتاجية ، باستخدام أنواع أفضل و أجود من الأسمدة و البذور المحسنة و خلافه ، و محاولة ضبط مسارات الرعي و خلق نوع من الأسواق و النشاط التجاري بين هذه المجموعات لتنشأ علاقات اقتصادية تساهم في الاستقرار المادي لهذه المجموعات و بالتالي التقليل من الخطر على البقاء و استدعاء المكون العرقي و الثقافي كما أسلفنا. الأمر الذي سيساهم في استدامة السلم و تقوية المزارعين في مواجهة خطر البيئة مع التغيرات المناخية المفاجئة و التقليل من حدة الصراع المتوقع حدوثه نتيجة شح الموارد مما يزيد من فرص استدامة السلام .
من المشاريع التي من شأنها أيضا أن تزيد من التوجه نحو القومية هي مشاريع المواصلات و النقل ، فسهولة التنقل ، تقود الى التبادل الثقافي و التبادل التجاري و النشاط الاقتصادي ، الأمر الذي سيسهم بشكل مباشر في الانتقال من المجتمع التعددي الى التعددية ، حيث ستبرز مسألة القومية بصورة أكثر سلاسة و موضوعية . فمشاريع النقل و في مقدمتها السكك الحديدية تعتبر عصب النقل و التنمية المتوازنة ، العمال في هذه المؤسسة ، سينتقلون اليها من مجموعات مختلفة و بالتالي سيتخذ الصراع طابعا آخر ناتج من طبيعة عملهم و حقوقهم و ليس هويتهم العرقية و الثقافية . التنقل بين المناطق المختلفة و التبادل التجاري بين المناطق المختلفة ، سيزيد من الانصهار و التمازج في قومية أكبر و مركزية أخلاقية تكاملية موحدة ، تعمل على جمع كل المكونات العرقية و الثقافية و الانتقال بها الى مستويات أخرى من الصراع ، أقل عنفا . الأمر الذي سيساعد بشكل كبير في استدامة السلام .
تبقى  طبيعة الصراع مع المجموعة المهيمنة في السلطة و كيفية اجبارها على قبول المكونات الأخرى و انشاء مثل هذه المشاريع التي تساهم في التقليل من الحروب و استدامة السلام مسألة معقدة .فبغياب الديمقراطية ، من الصعب جدا القيام بمثل هذه الاصلاحات ، يمكن أن تساعد البرامج التنموية للأمم المتحدة في بعض هذه الحلول و لكن الارادة السياسية للمجموعة المهيمنة تبقى ذات أثر أكبر. فلابد من وجود ديمقراطية راسخة قادرة على توفير أرضية مشتركة للقوى المختلفة و المجموعات المختلفة حتى تعمل من أجل الحصول على تنمية متوازنة و سلم وطيد.